الإعلامية : غادة محمد – مكتب سلطنة عمان
يشهد سوق التدريب العالمي والعربي حالة من الجدل، فبينما تشير تقارير
إلى نمو متوقع في حجم الإنفاق العالمي على تدريب الشركات ، يرى الكثير من الخبراء والممارسين في الميدان أن السوق
يعاني من ضعف وتحديات هيكلية تهدد جودته وفاعليته. هذا التناقض الظاهري لا يعكس
بالضرورة خطأ في التقديرات، بل يكشف عن تحول عميق وجذري في طبيعة التدريب نفسه،
مدفوعًا بالتكنولوجيا، وتغير متطلبات سوق العمل، وآثار أزمات عالمية كجائحة كورونا.
فهل يعيش سوق التدريب أزمة ضعف حقيقية، أم أنه يمر بمرحلة انتقالية
نحو نموذج جديد أكثر مرونة وتخصيصًا؟
الأسباب الظاهرية للضعف: ما الذي تغير؟
يمكن تلخيص التحديات التي تعطي انطباعًا بضعف السوق في عدة
نقاط رئيسية:
الانفجار المعرفي والتدريب الرقمي: أدى التحول الهائل نحو التدريب الإلكتروني
والمنصات المفتوحة (MOOCs) إلى إغراق السوق بآلاف الدورات
التدريبية. ورغم أن هذا التحول أتاح فرصًا واسعة للتعلم بتكلفة منخفضة أو حتى
مجانية، إلا أنه أفرز مشكلة "وفرة المحتوى" على حساب الجودة في كثير من
الأحيان. فجائحة كورونا سرعت من هذا التحول، حيث لجأت الشركات للتدريب الافتراضي
كبديل ضروري، لكن الكثير من هذه البرامج تم تصميمها على عجل دون مراعاة معايير
الجودة في التصميم التعليمي الرقمي.
ضعف الثقة في الشهادات التقليدية: مع سهولة الحصول على شهادات تدريبية عبر
الإنترنت، بدأت قيمتها تتآكل في نظر أصحاب العمل. أصبح التركيز الآن ينصب على
"المهارات الفعلية" القابلة للتطبيق وليس مجرد حيازة شهادة. هذا دفع
الشركات إلى البحث عن طرق أكثر دقة لتقييم كفاءة الموظفين، بعيدًا عن الدورات
العامة.
صعوبة قياس العائد على الاستثمار (ROI): لا تزال
الكثير من الشركات تجد صعوبة في قياس الأثر الحقيقي للتدريب على أداء الموظفين
وإنتاجية العمل. هذا يجعل من ميزانية التدريب الهدف الأسهل للتقليص في أوقات
الأزمات الاقتصادية، حيث يُنظر إليه كبند "كمالي" وليس
"استراتيجيًا".
الفجوة بين مخرجات التدريب واحتياجات السوق: كثير من البرامج التدريبية لا تزال تقدم محتوى
نظريًا عامًا لا يرتبط بشكل مباشر بالمهارات العملية المطلوبة في سوق العمل سريع
التغير. هذا يخلق حالة من عدم الرضا لدى المتدربين والشركات على حد سواء، ويُشعرهم
بأن التدريب لم يحقق الهدف المرجو منه.
التحول الجذري: نحو نموذج تدريبي جديد
على الجانب الآخر، لا يمكن إنكار أن سوق تدريب الشركات ينمو بالفعل من
حيث حجم الإنفاق. هذا النمو مدفوع بإدراك متزايد لدى المؤسسات بأن تطوير المهارات
لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية للبقاء في سوق تنافسي. التغيير الحقيقي ليس في
حجم السوق، بل في شكله وتوجهاته:
1- التخصيص والتعلم المدمج: تتجه الشركات الناجحة نحو تصميم برامج تدريبية
مخصصة
(Customized Training) تلبي احتياجاتها الدقيقة، مبتعدة عن
الدورات الجاهزة. كما يزداد الاعتماد على نماذج التعلم المدمج التي تجمع بين
التدريب الحضوري التفاعلي والتعلم الرقمي المرن.
2- التركيز على المهارات
الناعمة والتقنية المتقدمة: هناك طلب
متزايد على تدريب المهارات الناعمة مثل الذكاء العاطفي، والقيادة، والتواصل، وحل
المشكلات المعقدة. بالتوازي، هناك سباق نحو اكتساب المهارات التقنية المتقدمة
المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والأمن السيبراني.
3- صعود الشهادات المهنية
الاحترافية: بدلاً من الدورات القصيرة، يزداد الإقبال على
الشهادات المهنية المعتمدة من جهات دولية مرموقة (مثل PMP في إدارة
المشاريع أو شهادات الموارد البشرية). هذه الشهادات تقدم دليلاً ملموسًا على امتلاك
الفرد لمعايير محددة من الكفاءة والخبرة.
4- تكنولوجيا التدريب
المبتكرة: بدأ استخدام تقنيات مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع
المعزز
(AR) والمحاكاة في توفير تجارب تدريبية عملية وغامرة،
خاصة في المجالات التقنية والصناعية. كما يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا في تخصيص
مسارات التعلم لكل موظف بناءً على أدائه واحتياجاته.
الخلاصة: ليس ضعفًا بل إعادة تشكيل
إن ما يمر به سوق التدريب اليوم ليس ضعفًا بقدر ما هو عملية
"إعادة تشكيل" عنيفة وسريعة. السوق التقليدي القائم على الدورات العامة
والشهادات السهلة يتراجع بالفعل، لكن سوقًا جديدًا ينمو في المقابل، وهو سوق أكثر
نضجًا وتخصصًا، يركز على المهارات القابلة للقياس، والنتائج الملموسة،
والتكنولوجيا المبتكرة.
بالنسبة للمدربين ومراكز التدريب، فإن التحدي يكمن في القدرة على
التكيف مع هذا الواقع الجديد. البقاء في السوق اليوم يتطلب التحول من "مقدم
خدمة تدريب" إلى "شريك استراتيجي" يساعد المؤسسات على تحقيق
أهدافها من خلال تطوير رأس مالها البشري بفاعلية وكفاءة. أما بالنسبة للأفراد، فقد
أصبح التعلم المستمر واكتساب المهارات المتخصصة هو السبيل الوحيد للنجاة والتميز
في سباق سوق العمل المحموم.
غادة محمد السيد
سلطنة عمان
14 سبتمبر 2025
اترك تعليقا: